خبراء يناقشون إنجازات المغرب في تدبير الماء

في إطار الجلسة العلمية الثانية التي ترأستها الأستاذة بهيجة سيمو، مديرة الوثائق الملكية، بمناسبة الدورة 27 لجامعة مولاي علي الشريف، المنظمة من طرف وزارة الشباب والثقافة والتواصل برعاية ملكية تحت شعار “تدبير الماء في عهد الدولة العلوية الشريفة”، قدم أربعة أساتذة مداخلات حول موضوع تدبير الماء في المغرب، مبرزين مختلف الجوانب التاريخية، الاقتصادية والاجتماعية التي أثرت على استراتيجيات إدارة المياه في المملكة.

في هذا السياق، قدم الدكتور الجيلالي ابن إدريس، من كلية الحقوق بجامعة المولى إسماعيل-مكناس، مداخلة تناول فيها “الماء في الخطب الملكية السامية ودورها في توجيه وتأطير السياسة المائية بالمغرب الحديث”، استعرض من خلالها كيف شكل الماء محورا رئيسيا في الخطب الملكية، بدءا من عهد الملك الحسن الثاني الذي أطلق سياسة بناء السدود لتأمين الاحتياجات المائية للبلاد.

وقال المتحدث إن هذه الرؤية وضعت في إطار سياسة شاملة لتأمين العرض المائي بالتركيز على تعبئة الموارد المائية السطحية، خاصة في ظل الظروف المناخية الصعبة التي يعرفها المغرب، مضيفا أن هذه الجهود استمرت في عهد الملك محمد السادس، حيث أصبحت السياسات المائية أكثر تكاملا مع التركيز على الإدارة المتوازنة بين العرض والطلب على المياه.

وأبرز ابن إدريس أن المغرب يواجه حاليا تحديا مائيا كبيرا نتيجة التغيرات المناخية والنمو الديموغرافي المتزايد، ما دفع الدولة إلى البحث عن حلول مبتكرة لمواجهة الأزمة المائية، موردا أن الخطب الملكية في هذه المرحلة أكدت أهمية تحقيق الأمن المائي من خلال استدامة الموارد المائية، وتعزيز البنية التحتية المائية عبر بناء المزيد من السدود، وتحلية مياه البحر، وإعادة تدوير المياه العادمة، وهي سياسات ترتكز على رؤية بعيدة المدى لضمان استمرارية تزويد البلاد بالمياه.

في المقابل، ركزت مداخلة الدكتور صالح شكاك، أستاذ التعليم العالي بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين-فرع القنيطرة، على “تدبير الشأن المائي بالمغرب زمن الاستعمار”، مشيرا إلى أن السلطات الاستعمارية الفرنسية كانت واعية بأهمية التحكم في الموارد المائية، فقامت بإجراء دراسات معمقة حول التربة ونقاط المياه في المغرب.

وأوضح المتدخل أن هذه الدراسات كانت تهدف إلى استغلال الموارد المائية لفائدة المعمرين والشركات الفلاحية الكبرى، كما تم إنشاء مجموعة من البنى التحتية المائية لخدمة مصالح الاستعمار، مثل بناء السدود وتجفيف المستنقعات ومد قنوات الري، وهي إجراءات كانت تهدف إلى تعزيز الإنتاج الزراعي والتنموي لصالح المعمرين.

وأبرز أن هذه التدخلات أدت إلى تفاقم التفاوتات الاجتماعية، حيث سيطر المعمرون على معظم الموارد المائية، ما تسبب في احتجاجات شعبية، أبرزها أحداث واد فاس وأحداث بوفكران، مشيرا إلى أن هذه الأحداث تعكس كيف أن التدخل الاستعماري في تدبير المياه لم يكن يراعي مصالح السكان المحليين، بل زاد من معاناتهم، وهو ما أدى إلى توترات سياسية واجتماعية حادة في تلك الفترة.

من جهته، تناول محمد الصافي، أستاذ التعليم العالي بجامعة ابن زهر أكادير، “إشكالية تدبير الندرة المائية في الساقية الحمراء بعد الاستعمار الإسباني”، موضحا أن المناطق الصحراوية، كمدينة العيون، كانت تواجه تحديات مائية كبيرة بسبب الطبيعة القاحلة للبيئة، كاشفا أنه خلال فترة الاستعمار الإسباني كانت الموارد المائية المحلية تعتمد بشكل رئيسي على الآبار، وتم جلب المياه في بعض الأحيان من جزر الكناري لسد حاجيات المعمرين.

وأوضح الأستاذ ذاته أنه مع تزايد النمو الديموغرافي والحاجيات الاقتصادية في المنطقة، أصبح من الضروري البحث عن موارد مائية مستدامة. ولذلك، تم اللجوء في أوائل التسعينات إلى تحلية مياه البحر كحل استراتيجي لتلبية الحاجيات المائية المتزايدة، وتم إنشاء محطة تحلية المياه في المرسى قرب العيون، وهي خطوة مهمة نحو تأمين الموارد المائية في هذه المنطقة الجافة، مؤكدا أن هذا المشروع يعكس كيفية تحول تدبير المياه في المناطق الصحراوية من الاعتماد على الموارد التقليدية إلى الاعتماد على التكنولوجيا الحديثة لضمان استدامة الموارد المائية.

من جانبها، تناولت الدكتورة حسنة كجي، عميدة كلية العلوم القانونية والسياسية بجامعة الحسن الأول بسطات، موضوع “السياسة المائية بالمملكة المغربية بين إكراهات التغيرات المناخية ورهان الاستدامة”، حيث سلطت الضوء على الخصائص الجغرافية والمناخية المميزة للمغرب، التي تؤثر بشكل مباشر على توزيع الموارد المائية.

وقالت كجي إن تدبير الماء في المغرب أصبح تحديا كبيرا في ظل التغيرات المناخية التي أدت إلى تراجع الموارد المائية، خاصة في المناطق الجنوبية والداخلية، مبرزة أن هذه التغيرات، إلى جانب التوسع الكبير في القطاع الفلاحي، زادت من الضغوط على الموارد المائية المتاحة، مما جعل المغرب يمر بفترات من الوفرة المائية وأخرى من الندرة، وهو ما ألقى بظلاله على التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

وأوضحت الدكتورة حسنة كجي أن المغرب، على الرغم من هذه التحديات، تبنى سياسة مائية متقدمة تعتمد على استراتيجيات بعيدة المدى. فمنذ عهد الملك الحسن الثاني، تم التركيز على تخزين المياه من خلال بناء السدود، وهي سياسة استمرت في عهد الملك محمد السادس مع تعزيز البحث عن مصادر مائية جديدة مثل تحلية مياه البحر وإعادة تدوير المياه العادمة، مشددة على أهمية الاستدامة في إدارة الموارد المائية، مؤكدة أن الأمن المائي أصبح حقاً دستوريا في المغرب، وأن الدولة تسعى جاهدة لتطوير سياسات مائية تأخذ بعين الاعتبار التغيرات المناخية وتحافظ على استدامة الموارد المائية للأجيال القادمة.

وأجمع عدد من المشاركين في الجلسة العلمية الثانية سالفة الذكر على أنه لا يمكن الحديث عن تدبير المياه في المغرب دون الإشادة بالدور الرائد الذي لعبه سلاطين الدولة العلوية الشريفة في هذا المجال، خاصة خلال فترة الملك الراحل الحسن الثاني والملك محمد السادس.

وأوضح الخبراء والباحثون المشاركون في هذا اللقاء أنه منذ القدم، أدرك سلاطين الدولة العلوية أهمية الماء باعتباره عنصرا أساسيا لضمان استقرار الحياة البشرية وتطوير الاقتصاد الوطني، مستحضرين تميز الملك الحسن الثاني برؤية استباقية في مجال تدبير الموارد المائية، حيث أطلق مشروع “السدود الكبرى”، الذي أسهم في تحويل المغرب إلى دولة رائدة على مستوى تخزين المياه والتحكم فيها، وهذه السياسة شكلت ركيزة أساسية لتأمين الماء في فترات الجفاف، وضمان استمرارية الزراعة وتزويد المدن الكبرى بالماء الصالح للشرب.

أحد أبرز إنجازات الملك الحسن الثاني تمثل في بناء سلسلة من السدود الكبرى، التي مكنت من توفير احتياطي مائي استراتيجي للبلاد، مما ساهم في مواجهة الأزمات المائية وتقلبات المناخ، توضح مداخلات الباحثين والمهتمين بالمجال المائي، مبرزين أنه تم تعزيز هذه السياسة في عهد الملك محمد السادس، الذي حرص على مواصلة تطوير البنية التحتية المائية من خلال مشاريع مبتكرة مثل تحلية مياه البحر وإعادة تدوير المياه العادمة، وتحت قيادته أصبحت المملكة المغربية نموذجا يحتذى به في مجال الاستدامة المائية، حيث تم التركيز على الإدارة المتكاملة للموارد المائية بما يتماشى مع التحديات البيئية العالمية.

لقد شكلت الرؤية الملكية المتبصرة في عهد الملك محمد السادس استمرارية للجهود التي بذلها والده، إذ تم التركيز على تعزيز الأمن المائي من خلال توسيع شبكة السدود القائمة، وتحسين تقنيات الري في القطاع الزراعي، والتوجه نحو تقنيات حديثة ومستدامة مثل تحلية مياه البحر، مما ساهم في تنويع مصادر الماء وضمان استدامتها للأجيال القادمة، وفق المداخلات العلمية ذاتها.